Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
الإيمان والحِكْمَة
(1: 2- 8)
1:2اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ3عَالِمِينَ أَنَّ امتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا.4وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.5وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ فَسَيُعْطَى لَهُ.6وَلَكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ لأَِنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجًا مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ.7فَلاَ يَظُنَّ ذَلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ.8رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.


ليَعْقُوب طريقةٌ فذَّةٌ في ربط الأفكار، وهي أسلوبٌ خاصٌّ في الكتابة يسمِّيه اليونانيون anadiplosis تصبح فيه الكلمة البارزة في الآية الواحدة عنواناً وموضوعاً للآية التي تليها. وهكذا نقرأ chairein و chara (فرح) في الآيتين 1 و 2، و "صبر" في الآيتين 3 و 4, و "النَّقص" أو "العوز" في الآيتين 4 و 5, و "ليطلب" في الآيتين 5 و 6 وثمَّة المزيد مِن هذا الanadiplosis في أماكن متفرِّقةٍ مِن هذه الرِّسَالَة.
يُحَيِّينا يَعْقُوب، وهو بتحيَّته هذه يحثُّنا على الابتهاج، منتظراً ردَّ فعل مسيحيِّين كثيرين. أمَّا نحن فبالنا مشغولٌ بالمشاكل، والاضطرابات تُضيِّق الخناق علينا؛ فكيف لنا أن نبتهج في مثل هذه الظُّروف؟ ولكنْ عند يَعْقُوب الجواب اليقين: إنَّ تجاربنا نفسها هي دواعي الفرح الخالص. يدعونا يَعْقُوب بحنانٍ "إخوته"، قبل أن يواجهنا بمفارقته الرَّائعة. وهو كلَّما كان عنده قولٌ قاسٍ، أو نصيحةٌ حكيمةٌ يُقدِّمها، يُذكِّرُنا باهتمامه الأخويِّ بنا.
"اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ". والتَّرجمات الحديثة تبدل العبارة "تجارب" بالعبارة "امتِحَانات" أو "مِحَن1"؛ ولا شكَّ أن يَعْقُوب كان يقصد الامتِحَانات، فالعبارة اليونانيَّة للتَّجريب والامتِحَان هي واحدةٌ. فالشَّيْطَان "يُجرِّبنا" كجزءٍ مِن مقاصده الشِّريرة؛ أمَّا الله "فيمتحننا" مِن خلال تغيُّرات الحياة وفُرَصها لغايةٍ مختلفةٍ كلِّياً. وفي الحالتين نتساءل كيف يمكن أن يكون الامتِحَان سبب ابتهاجٍ! يؤكِّد "كلفن" أنَّ رَدَّ فعلنا الطَّبيعي في الامتِحَان هو الانهيار والانفجار بالبكاء.
ألا نُصلِّي إلى أبينا السَّماوي قائلين: "لا تُدْخلنا في تجربة"؟ تذكَّر أنَّ التَّجربة نفسها، بمفهومها السَّيئ، ليست خطيَّةً في ذاتها. فيَسُوْع نفسه جُرِّب في البرِّية، وعلى الرَّغم مِن ذلك ثبت بدون خطيَّةٍ. ومِن جهةٍ أُخرى، قد يؤدِّي الامتِحَان إلى الوقوع في خطيئَتَي المرارة والثَّورة؛ بَيْدَ أَنَّ مثل هذا الامتعاض هو جاحدٌ وقصير النَّظَر في آنٍ واحدٍ. وقد عبَّر أحدهم في حديثٍ إذاعيٍّ عن هذا الأمر بقوله: "لا بدَّ لنا مِن قبول المحنة عندما تأتي. ولا يحقُّ لنا أن نسأل في الضَّرَّاء قائلين: (لماذا حدث هذا الأمر لي؟) ما لم نطرح السُّؤال نفسَه في السَّرَّاء أيضاً". ينبغي اعتبار كلِّ اخْتِبَار بركةً وكذلك كلّ فرحٍ بركة مِن الله. كان أحد أصدقائنا، وهو طبيبٌ أردنيٌّ، يتقدَّم للامتِحَان في الطِّب للمرَّة الثَّانِية، وكان شديد التَّوق للنَّجاح، ولكنَّه في المقابل كان مستعدّاً لقبول الرُّسوب أيضاً. ويوم إعلان النَّتائج سمعناه مصادفةً يُعبِّر عن ردِ فعله كمسيحيٍّ على الهاتف قائلاً: "إِن كنتُ قد نجحتُ فالحمد لله، وإنْ رسبتُ فهلِّلويا". هذا هو الرُّوح الذي يُميِّز أولاد الله.
لا يتحدَّث يَعْقُوب عن الامتِحَانات فحسْب، بل عن جميع أنواع الامتِحَانات ودرجاتها. ويشير "كلفن" إلى أنَّ كلَّ امتِحَان هو علاجٌ خاصٌّ لِعَيبٍ مختلِف، واحدٌ للأنانيَّة، وآخَر للحسد، وثالث للانغماس في الدُّنيويَّات، وكذلك للطَّمَع والنَّهَم. ويُمكننا أن نُفكِّر في أمثلةٍ صريحةٍ لآخِر هذه العيوب، حيث أدَّى الإفراط الأحمق في التهام الطَّعام إلى غثيانٍ مؤرِّقٍ. أمَّا الذُّنوب الأخطر مِن النَّهَم فلها علاجاتٌ يمكن أن تكون أكثر إيلاماً.
وما الذي يدعونا إلى أن نفرح في وسط المحَن والاخْتِبَارات؟ يُقدِّم يَعْقُوب الجواب لنا في الآية 3، وجوابه هذا لا يشمل الخطايا التي يُدْرجها "كلفن" أعلاه فحَسْب، بل يختبر أيضاً أين لا علاقة لنطاق الامتِحَان بأيِّ خطايا جليَّةٍ (يُوحَنَّا 9: 2- 3). إنَّ امتِحَان إيماننا يُنشئُ صبراً أو ثباتاً، وهذا الثَّبات ليس غايةً في ذاته، بل إنَّه يُؤتِي أُكله في النُّضْج المَسِيْحيِّ الأسمى. مِن السَّهل أن نبتهج بمسرَّات الحاضِر؛ والإيمان والرَّجاء ضروريَّان للابتهاج بأفراح المستقبل الموعودة. وتستطيع الأمُّ أن تبتهج بترقُّب ولادة طفلها، متحمِّلةً كل ضيقٍ أو انزعاجٍ في سبيل ذلك الحَدَث السَّعيد.
مِن المتوقَّع أنَّ البعض قد يعتقد أنَّ يَعْقُوب يُغيِّر ترتيب بولس للاسمين الرَّئيسيَّين في هذه الآية، وهما dokimion (dokimé في رومية 5: 4) و hypomoné (الصَّبر أو الثَّبات). ويُمكن أن يصبح النَّص في رسالة يَعْقُوب: "الاخْتِبَار يُنشئ صبراً"، ونظير هذا النَّص عند بولس هو "الصَّبر يُنشئ تزكيةً"، أو بحسب إحدى التَّرجمات الحديثة "برهاناً على ثباتك في الامتِحَان".
إنَّ النُّضج الذي ذكرناه قبلاً هو بالطَّبع اسم المعنى الذي يُقابِل "تَامِّينَ وَكَامِلِينَ" في العدد 4 وهذا النُّضج أو التَّمام يقتضي ضمناً انعدام العيب أو العَوَز. وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن نُحقِّقَه في حياتنا الرُّوحية. فمادِّياً يُوفِّر الله لنا جميع احتياجاتنا، فنُرنِّم مع ناظم المزامير قائلين: "لاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ"؛ وروحيّاً ربُّنا كلُّه رغبةٌ في أن يُزيِّنَنا بنِعَم التَّقوى. فهل يُعوزُك الإيمان أو المحبَّة أو الحِكْمَة؟
يقول يَعْقُوب فلنصبَّ اهتمامَنا على حاجةٍ واحدةٍ مستقلَّةٍ، حاجتك إلى الحِكْمَة. إنَّ ما ورد في العَهْد الجَدِيْد عن هذه الموهبة الرُّوحية هو أقلُّ ممَّا ورد عن الإيمان والرَّجاء والمحبَّة على سبيل المثال. وبولس يرفض حكمة هذا العالم بوصفها خاسرةً في بحث الإنسان عن الله والخير (1 كُورِنْثُوس 1: 21؛ 3: 19). أمَّا الحِكْمَة الحقيقيَّة فهي مِن أسماء الله الحُسنى؛ فهو قدُّوسٌ، وهو محبَّةٌ، والإله الحكيم الوحيد (يَهُوذَا 25: 1؛ 1 كُورِنْثُوس 1: 24؛ رؤيا 7: 12). وحكمته متاحةٌ لجميع الذين يخافونه؛ وهي تُزيِّن المملوئين بروحه القدُّوس (إِشَعْيَاء 11: 2؛ أَعْمَال 6: 3).
فما هي هذه الحِكْمَة إذاً؟ إنَّها ليست معرفة أسرار أعمق متاحة لقِلَّةٍ مختارةٍ لحل شِفرة الأعداد الكتابية، أو حلِّ مسألة التَّسيير والتَّخيير. كلاَّ، بل الحِكْمَة هي تلك الفطنة التي تمكِّنُنا مِن وزن كلِّ شيءٍ بميزان الأبديَّة والقِيَم المُطْلَقَة. وإذا ما ربحها أحدٌ، فإنَّها تضبط حياته العاديَّة على نحوٍ رائعٍ، ولكنْ، كما يقول "بنغل" Bengel إذا فهمنا كيف ينبغي احتمال الامتِحَان ومقاومة التَّجربة.
بما أنَّه ليس ثمَّة تقدُّمٌ في الخبرة الرُّوحية بمعزلٍ عن الصَّلاة، يُعرِّفها يَعْقُوب بالحِكْمَة. للحصول على نصيحة عمليَّة بشأن أيِّ أمرٍ نرجع عادةً إلى خبيرٍ. ويستطيع روح الله أن يُعلِّمنا كيف نسأل ونطلب ونقرع، وهو هنا يُعلِّمنا بواسطة الرسول الذي تشهد ركبتاه المتصلِّبتان لأولويَّة الصَّلاة.
عرَض الملك هيرودس على سالومة أن يُعطيها مهما طلبَت منه حتَّى نصف مملكته. وعندئذٍ تردَّدت سالومة ثمَّ أسرعَت إلى أمِّها قائلةً: "ماذا أطلب؟" وأنت تَعلم جوهر الجواب المُريع. وعلينا نحن أيضاً أن نطرح مثل هذا السُّؤال عندما نرتاب: "ماذا أطلب؟". لكنْ خُذ الجواب مِن أبيك السَّماوي. فكلمة الله تُعلِّمنا، في هذا السِّياق، أن نطلب مِن الله الحِكْمَة. والحِكْمَة مميَّزةٌ مِن بين المواهب الكثيرة التي يمكننا الحصول عليها منه. فجميع المواهب الأخرى تُصبح للبنيان والإرضاء والتَّمجيد عندما نطلب بحكمةٍ ونُمارسها بحكمةٍ.
إنَّ ثقتنا بعظم شأن الصلاة قائمةٌ على فرط كرم الله غير المحدود: فهو يُعطي بسخاءٍ كلَّ مَن يطلب، دون أن يردَّه أو يوبِّخه؛ أو كما يقول "بنغل": "إنَّه لا يلومنا على حماقاتنا الماضية، ولا على إساءة استعمالنا في المستقبل لجودته. أمَّا الأب الأرضيُّ فقد يعطي ولدَه الذي أزعجه لأمرٍ ما، ولكنْ بعد أن يوبِّخَه ويُعنِّفه".
كيف أطلب؟ ثمَّة سؤالٌ آخر نجد جوابه في الآية 6. اطلب بإيمان. وهذا وحده كافٍ لتبرئة يَعْقُوب مِن تهمة تجاهل الإيمان. فالإيمان أساسيٌّ وحيويٌّ جدّاً، وبدونه تكون الصَّلاة عقيمةً ولا ننال شيئاً ذا قيمةٍ ثابتةٍ مِن الله. الشَّك هو تردُّدٌ بين التَّصديق وعدمه مع انحيازٍ إلى الأخير. وهو يُشير إلى عدم تأكُّدنا مِن أنَّنا نريد ما نُصلِّي لأجله، وبخاصَّةٍ إذا كان امتيازاً أو بركةً تتضمَّن تسليماً قلبيّاً أعمق. يوصي يَعْقُوب ليس بإيمانٍ صادقٍ فحسْب، بل بإيمانٍ لا يُداخله ريبٌ. هكذا كان إيمان الأرملة اللَّجوجة (في لُوْقَا 18) التي كانت تطلب باستمرارٍ دون أن تثبط همَّتها.
"فَلاَ يَظُنَّ": إذا ضممنا الآيتين 7 و 8 معاً نُلاحظ أنَّ الإيمان لا يستند إلى مجرَّد الظَّن، بل إلى الحقائق، إلى الصَّخرة الصلبة التي هي شخص المَسِيْح وعمله. وعلى النَّقيض مِن الإيمان نجد ازدواج العقليَّة، موقف إنسانٍ ذي نفسَين (بحسب التَّعبير اليوناني) الذي يخدم سيِّدَين، متقلقلاً في حياة الصَّلاة، وفي قراءة الكتاب، مهملاً واجباته. لماذا ينتظر مثل هذا الإنسان أن ينال أيَّ شيءٍ يطلبه مِن الرَّب، إذا كان قد أخفق في إدراك قيمة ما قد ناله قبلاً؟